لنبدأ بطرح كل التساؤلات والإنتقادات التي أُثيرت مؤخراً حول موضوع الإعجاز الرقمي في القرآن الكريم ، ونجيب عنها بكل صراحة ووضوح .
ومن هذه التساؤلات : ماهي الفوائد من دراسة الإعجاز الرقمي ؟ وهل هنالك علاقة بين الأرقام وعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ؟ وما هي قصة رشاد خليفة وانحرافاته ؟ وماذا عن حساب الجُمَّل ؟ وماذا عن قراءات القرآن العشر وهل فيها إعجاز رقمي ؟
سوف نحاول أيضاً من خلال الصفحات الآتية وضع ضوابط لهذا العلم الناشئ ، هذه الضوابط هي الأساس العلمي والشرعي الذي اعتمدنا عليه في استنباط الحقائق الرقمية الثابتة في كتاب الله عزَّ وجلَّ .
مقدمة
بيّنت الدراسة والبحث المنهجي لآيات القرآن الكريم أن التناسق والإحكام لايقتصر على معاني ودلالات الكلمات فحسب ، إنما هنالك تناسق في أعداد هذه الكلمات وتكرار حروفها . فإذا ما نظرنا إلى هذا الكتاب العظيم على أنه بناء مُحكَم من الحروف ، سوف نستنتج أن الله جل وعلا كما رتَّب كل ذرة في هذا الكون بنظام مُحكَم ودقيق ، كذلك رتَّب كل حرف في هذا القرآن بتناسق مُحكَم ودقيق .
وهذا هو موضوع بحثنا في رحاب حروف وكلمات كتاب الله تعالى ، واستخراج العلاقات الرقمية والتناسقات العددية ، لهذه الكلمات والحروف ، والتي أثبت البحث الطويل أنها تقوم على الرقم سبعة . وأن التناسق مع الرقم سبعة له مدلول كبير ، وهو أن هذا القرآن صادر من ربّ السماوات السبع سبحانه ، وأن الله تعالى قد حفظ كتابه من التحريف ، وأنه لا يمكن لأحد أن يأتي بمثل هذا القرآن ، بمثل ألفاظه ومعانيه أو بمثل أعداد كلماته وحروفه .
ولكن قبل أن نبدأ رحلتنا في رحاب الرقم سبعة نودُّ أن نجيب عن الأسئلة التي قد تخطر ببال من يقرأ هذه الموسوعة في الإعجاز الرقمي ، لا سيما أن هذا العلم الناشئ قد تعرَّض في بداياته إلى شيءٍ من الخطأ والمبالغة والغلوّ . وقد شاهدنا بعض الانحرافات من بعض من استغلّ الأرقام لأهداف شيطانية ، فأساء لهذا العلم البريء من أمثال هؤلاء .
شبهات وانحرافات
شُبهات كثيرة أُثيرت ولا تزال حول موضوع الإعجاز العددي في القرآن الكريم ، فبعضهم يعتقد أن لا فائدة من دراسة الأرقام القرآنية ، باعتبار أن القرآن الكريم كتاب هداية وتشريع وأحكام ، وليس كتاب رياضيات وأرقام !
ومن العلماء من يعتقد أن إعجاز القرآن إنما يكون ببلاغته ولغته وبيانه ، وليس بأرقامه ! ويتساءل بعض السادة القرّاء حول مصداقية كتب الإعجازالرقمي ، ومدى صِدق النتائج التي تقدمها أبحاث هذا النوع من الإعجاز . والعجيب أن الأمر قد تطور لدى بعض المعارضين إلى إنكار الإعجاز العددي برمّته بسبب عدم اقتناعهم بوجود علاقات رقمية في كتاب الله تعالى .
ولكن لماذا ينأى علماء المسلمين بأنفسهم عن علم الرياضيات في القرآن ؟ وهل هنالك أحكام مسبقة تجاه هذا العلم بسبب بعض الانحرافات والأخطاء التي وقع بها (رشاد خليفة) أول من تناول هذا الموضوع منذ ربع قرن وغيره ممن بحثوا في هذا المجال ؟
حول هذه التساؤلات سيكون لنا وقفات في هذا المبحث نجيب من خلالها عن بعض الانتقادات التي يواجهها الإعجاز الرقمي اليوم ، ونبيّن فيها ما لهذا العلم الناشئ من حقّ علينا ، ونبيّن كذلك الأشياء الواجب على من يبحث في هذا الجانب الإعجازي أن يلتزم بها أو يبتعد عنها .
وسوف نطرح جميع الانتقادات بتجرّد ، ونجيب عنها بإذن الله بكل صراحة . وسيكون الدافع من وراء ذلك هو الحرص على كتاب الله سبحانه تعالى ، وإظهار الحقّ والحقيقة ، ونسأل الله أن يلهمنا الإخلاص والصواب . ونبدأ بهذا السؤال :
ماهي قصة رشاد خليفة ؟
منذ أكثر من ألف سنة بحث كثير من علماء المسلمين في الجانب الرقمي للقرآن الكريم ، فعدُّوا آياته وسورَه وأجزاءَه وكلماته وحروفَه . وغالباً ما كانت الإحصاءات تتعرض لشيء من عدم الدقة بسبب صعوبة البحث . وإذا تتبعنا الكتابات الصادرة حول هذا العلم منذ زمن ابن عربي وحساب الجُمَّل ، وحتى زمن رشاد خليفة ونظريته في الرقم 19 ، لوجدنا الكثير من الأخطاء والتأويلات البعيدة عن المنطق العلمي .
لقد استغلّ الدكتور رشاد بعض الحقائق الرقمية الصحيحة والواردة في كتاب الله تعالى ، والمتعلقة بالرقم 19 ، واعتبر أن القرآن كلَّه منظَّم على هذا الرقم . ولكن اتّضح فيما بعد زَيْف ادعائه وكَذِب نتائجه ، وتبيّن بأن معظم الأرقام التي ساقها في كتابه (معجزة القرآن الكريم) بعيدة عن الصواب .
ومن أهم الأمثلة التي ذكرها في بحثه وبنى عليها دراسته ، أن أول آية في القرآن : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ، تتكرّر كلماتُها في القرآن عدداً من المرّات من مضاعفات الرقم 19 . وقد ثَبُت أن هذا الكلام غير دقيق .
فهو يقول بأن كلمة : ﴿بِسْمِ﴾ وأصلها ﴿اسم﴾ قد وردت في القرآن كله 19 مرة ، والصواب أنها وردت 22 مرة ، وهذا العدد ليس من مضاعفات الرقم 19 .
ويقول بأن كلمة ﴿الله﴾ وردت في القرآن 2698 مرة ، أي 19×142 ، وهذا العدد غير دقيق أيضاً ! والصواب أن كلمة ﴿الله﴾ عزّ وجلّ تكررت في القرآن كلّه 2699 مرة ، وهذا العدد لاينقسم على 19 .
أما قوله بأن كلمة ﴿الرَّحْمنِ﴾ وردت في القرآن 57 مرة ، أي 19×3 فهذا صحيح .
وقوله بأن كلمة ﴿الرَّحِيمِ﴾ وردت 114 مرة ، أي 19×6 ، فهذا غير صحيح ، والحقيقة أن هذه الكلمة تكررت في القرآن كله 115 مرة . إذن ، قدّم رشاد رقماً واحداً صحيحاً من أصل أربعة أرقام ، وهكذا يفعل مع بقية الأرقام التي قدّمها ، فتجد أنه يسوق رقماً صحيحاً ويخلط به عدة أرقام ليجعلها جميعاً من مضاعفات الرقم 19 . وبالتالي يمكن اعتبار النظرية غير صحيحة .
لقد حصل رشاد خليفة على نتائج مهمة في إعجاز الرقم 19 . فقد اكتشف ملامح لبناء يقوم على هذا الرقم ، فعدد سور القرآن هو 114 سورة وهذا العدد من مضاعفات الرقم 19 . وكذلك عدد حروف أول آية في القرآن هو 19 حرفاً .
وعدد حروف القاف في سورة (ق) هو 57 حرفاً ، وهذا العدد من مضاعفات الرقم 19 أي يساوي 19×3 . وكذلك عدد حروف الياء والسين في سورة (يس) هو 285 حرفاً أي 19×15 .
ولكنه تسرَّع ونسي بقية الأعداد القرآنية وعلى رأسها الرقم سبعة ، وقدَّم إحصائيات عن الحروف المقطعة أو المميزة في أوائل السور ، ونتيجة هذه الإحصائيات أن جميع هذه الحروف تتكرر بشكل يتناسب مع الرقم 19 ، وتبين فيما بعد أن هذه الإحصائيات غير صحيحة ، بل قدَّم أرقاماً بعيدة كثيراً عن الحقيقة ، وهدفه من وراء ذلك ليبهر الناس باكتشافاته .
كما أنه تجاوز الحدود بمحاولة حسابه لموعد قيام الساعة الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ! وقام بحساب كل حرف من الحروف الواردة في أوائل بعض السور وهي الحروف المميزة (أو المقطعة كما يسميها البعض) ، وفقاً لحساب الجُمَّل ، هذا الحساب الذي لا يستند إلى أي أساس علمي ، وجمع ثم طرح على طريقته ليخرج من ذلك بتحديد موعد يوم القيامة عام 1710 وهذا العدد من مضاعفات الرقم 19 !!!
ماذا عن بقية الباحثين ؟
إن معظم الباحثين الذين اعتمدوا الرقم 19 أساساً لأبحاثهم ، قد وقعوا في خطاٍ غير مقصود ، إما في عدّ الحروف ، وإما في منهج الحساب . وهذا لايعني بأن التناسقات العددية القائمة على العدد 19 ليست موجودة ، بل إننا نجد إعجازاً مذهلاً لهذا الرقم الذي ذكره الله تعالى في قوله : ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر : 74/30] .
كما أن هنالك أرقاماً أخرى جاء فيها التناسق مثل الرقم 11 الذي يشير إلى وحدانية الله تعالى . لأنه عدد أولي لا ينقسم إلا على نفسه وعلى الواحد وهو يتألف من 1 و 1 .
ومن عجائب أرقام القرآن أن كلمة ﴿الشهر﴾ قد تكررت في القرآن كله 12 مرة بعدد أشهر السنة ؟ أما كلمة ﴿اليوم﴾ فقد تكررت في كتاب الله تعالى 365 مرة بعدد أيام السنة ؟
وقد جاء عدد مرات ذكر كلمة ﴿الدنيا﴾ في القرآن كلّه مساوياً لعدد مرات ذكر كلمة ﴿الآخرة﴾ ، وقد تكررت كل كلمة من هاتين الكلمتين 115 مرة بالتمام والكمال !
ويمكن القول بأن معظم الباحثين الموجودين حالياً في العالم الإسلامي يتمتعون بالإخلاص إن شاء الله تعالى ، وإن صدرت منهم بعض الهفوات أو الأخطاء الحسابية فذلك بسبب صعوبة البحث في هذا الوجه الإعجازي الحديث . وبسبب عدم وجود مراجع أو ضوابط في هذا العلم . ونأمل منهم أن يتحرّوا المنهج العلمي الثابت والمدعوم بآلاف النتائج الرقمية التي تُثبت نتائجهم بشكل قاطع .
هذا . وإن الذي يطلع على ما كُتب في الإعجاز العددي يلاحظ عدداً ضخماً من النتائج التي وصل إليها الباحثون في هذا العلم . ولكن نرى أن هذه النتائج قد خُلطت بنتائج أخرى تعتمد على المصادفة والاحتمالات . ومن الصعب جداً على القارئ العادي التمييز بينها ، وهنا تكمن المشكلة .
فنجد أن القارئ العادي يأخذ جميع هذه النتائج على أنها معجزات ! بينما القارئ الحذر غالباً ما يعتبر أن هذه النتائج هي محض مصادفات . ونحن لسنا مع كلا الطرفين .
بل يجب على المؤمن أن يتحرى الحقَّ أينما وُجد ويأخذ به ، وفي الوقت نفسه يبحث عن الأخطاء ويتجنّبها .
وقد يكون من أهم الأخطاء التي يقع فيها من يبحث في هذا العلم ، ما يُسمّى بالترميزات العددية ، أي إبدال كل حرف من حروف القرآن الكريم برقم ، وجمع الأرقام الناتجة بهدف الحصول على توافق مع رقم ما ، أو للحصول على تاريخ لحدث ما . وقد يكون من أكثر أنواع التراميز شيوعاً ما سُمّي بحساب الجُمّل .
ماذا عن حساب الجُمّل ؟
دأب كثير من الباحثين على إقحام حساب الجُمّل في كتاب الله تعالى ، فما هي حقيقة هذا النوع من الحساب ؟ وهل قدّم حساب الجُمَّل نتائج علمية صحيحة ؟
يُعتبر هذا النوع من الحساب الأقدم بين ما هو معروف في الإعجاز العددي . ويعتمد على إبدال كل حرف برقم ، فحرف الألف يأخذ الرقم 1 ، وحرف الباء 2 ، وحرف الجيم 3 ، وهكذا وفق قاعدة أبجد هوّز .
وإنني أوجه سؤالاً لكل من يبحث في هذه الطريقة : ما هو الأساس العلمي لهذا الترقيم ؟ وأظن بأنه لا يوجد جواب منطقي وعلمي عن سبب إعطاء حرف الألف الرقم 1 ، وحرف الباء الرقم 2 ، . . . لماذا لايكون الباء 3 أو 4 مثلاً ؟
فتجد أحدهم يقول إن جُمَّل كلمة (البيِّنة) هو 98 ، أي لو أعطينا لكل حرف من حروف هذه الكلمة رقماً يساوي قيمته في حساب الجمل وجمعنا الأرقام نجد العدد 98 وهذا هو رقم سورة البيِّنة في المصحف . وينطبق هذا الحساب على كلمة الحديد التي مجموع حروفها في حساب الجمَّل هو 57 وهذا هو رقم سورة (الحديد) في القرآن .
ولو أن الحال استمر على هذا المنهج لكانت النتائج مقبولة وليس هنالك أي احتمال للمصادفة ، ولكن لدينا في المصحف 114 سورة ، ووجود توافق ما لسورتين فقط هو أمر تتدخل فيه المصادفة بشكل كبير .
وعندما حاول بعضهم دراسة بقية السور لم تنضبط حساباته مع أرقام السور ، لذلك فقد لجأ إلى تغيير المنهج وذلك مع سورة (النمل) التي رقمها في المصحف هو 27 . ولكن هذه الكلمة في حساب الجمَّل تساوي 151 وهذا الرقم بعيد جداً عن رقم السورة . فلجأ هذا الباحث إلى عدد الآيات لسورة النمل وهو 93 وكان هذا الرقم بعيداً أيضاً عن جُمَّل الكلمة ، فجمع رقم السورة مع عدد آياتها ليحصل على العدد 27+93 = 120 وهذا الأخير أيضاً بعيد عن قيمة الكلمة .
فحذف من كلمة (النمل) التعريف لتصبح غير معرفة هكذا (نمل) ، وكانت المفاجأة بالنسبة له وجود تطابق بين جُمَّل كلمة (نمل) وهو 120 وبين مجموع رقم سورة النمل وعدد آياتها وهو 120 أيضاً .
والسؤال هنا : هل يُسمح للباحث بسلوك مناهج متعددة أو حذف حروف من أسماء السور للحصول على توافقات معينة ؟ وهل يُسمح له أثناء تعامله مع كتاب الله تعالى أن يجمع عدد الآيات مع رقم السورة مرة ، ثم يكتفي برقم السورة مرة ثم يأخذ اسم السورة كما هو مرة وفي الأخرى يحذف حروفاً من هذا الاسم ؟؟
إن هذا الحساب لم يقدّم أية نتائج إعجازية ، وإن كنا نلاحظ أحياناً بعض التوافقات العددية الناتجة عن هذا الحساب عن طريق المصادفة . ولكن إقحام حساب الجمّل في كتاب الله تعالى ، قد يكون أمراً غير شرعي ، وقد لا يُرضي الله تعالى .
لذلك فالأسلم أن نبتعد عن هذا النوع وما يشبهه من ترميزات عددية للأحرف القرآنية ، والتي لا تقوم على أساس علمي أوشرعي ، حتى يثبُت صِدْقُها يقيناً . وينبغي علينا أن نعلم بأننا نتعامل مع أعظم وأقدس كتاب على وجه الأرض .